الفصل الثالث
الأغنية الحضرمية موسيقاها ومكانها في المجتمع الحضرمي
الموسيقى في جنوب اليمن
عدا الموسيقى العسكرية لفرقة الأمام تعتبر الآلات الموسيقية وممارسة الطرب من الأشياء المحظورة في اليمن.
ويمارس الناس العزف على الآلات الموسيقية سـرا، وينطبق هذا بالمثل على الجرامافونات و يسمى الجرامافون في عدن ( صندوق الطرب وفي حضرموت الحاكي ) وتسمى الأسطوانات( صحون ) وفردها ( صحن ) وهناك معارضـة قـوية(1) ضد السينما في كلا الشطرين وحتى فيعدن نفسها ، وتسمع الموسيقى في المناسبات و هنـاك شعور مضاد وحاد لهـا إلى الحد الذي جعل أحمد فضل العبدلي يكتب رسالتـه التي سماها ( فصل الخطاب في إباحة العود والرباب ) (عدن طبعتان في عامي 1938و1941م تقريبا ) ، ومن محتوياتهـا قصيدة في شرعية العود وهي في مجملها مدعمة بالشواهد من الأحاديث النبوية.
وقد تكون المقالة المحمومة التي كتبها محسن بن محمد العطاس وهومن سادة حضرموت بعنوان ( رقيـة المصـاب بالعـود والـرباب ) (المطبعة العربيـة من الردود التي تهاجم الآلات الموسيقية .وكتب ( لاندبرج Landberg )(2) عن تلك الآلات ما يلي: ( لقد وقف الشوافع المتشددين موقفا معارضا رافضا لأفكار ذلك المطرب ( أحمد فضل العبدلي ) وقد أوعزوا لأحد السادة في عدن أن يكتب حول ذلك الموضوع وأمدوه بما يحتاج إليه من الدعم المادي لا تمام المشروع ). وأورد باصبرين من دوعن (3) بالتفصيل عددا من المحرمات المنافيـة للإسلام في حضرموت ومنها عزف ( العنفيطـة ) ( وهو المزمار ذو القصبتين ويستعمل في شرح العبيد على وجه الخصوص ) والمدروف ( الناي ) و القنبوس ( العود القديم ) والربابة وجميعها آلات للهو تمنعها المذاهب المعتمدة باستثناء تلك الموسيقى التي تستعمل للحرب واستنفار المماليك ( الجنود ) .
ويبدوأنه يوجد في تريم شئ من المنع قانونا أوعرفا على عزف تلـك الآلات أوعلى الأقل، عزفها علنا على سمع من الناس والمجتمع ولا أستطيع أن أؤكد إلى أي حد يسـود هذا المنـع. والآلة الوحيدة التي استمعنا إليها خلال الأشهر الستة التي أقمنهـا في تريم هي ( الطبل ) وكان يستعمل في الحي الذي نسكنـه لأغراض التسليـة ولا يستمع الناس للموسيقى عن طريق الإذاعة بالرغم من وجود أسطوانات الجرامافون ( الحاكي ) في بيوت السـادة الأغنياء وهم غالبا ما يكونون الأقل تحفظا وتزمتا، وعلى أي حال ففي مدينة تريم يوجد فنانون موسيقيـون محترفـون وهم من الرجال بالطبع، ولا أشك أنهم قد تحصلوا على اجر مجز وذلك في الرحلة( المندر ) الذي أقامه على شرفنا السيد جمل الليل الكاف الذي أستأجر أحد الفنانين طوال اليوم ، وقد اخبرنا هذا الفنان انه قد أعتاد على شرب الكحول( الخمر ) لمساعدة صوته على الأداء وأكد لنا أن ذلك لأغراض صحيـة بالطبع.
وقام بالغناء بمصاحبة العـود المصري وهوآلة ذات تجويف كبير وعنق أسـود وقد نقش في وسطها بالصدف وكتب أسمه عليها وقد غنى لنا أغاني حضرمية ويمنية ومصرية وهندية، ويبدوأن الموسيقى في سيئون ( بلاد الأنس والنغم ) ليست شيئا ممنوعا.وفي الوقت الذي زار فيه ( لاندبرج L andberg ) حضرموت يبدو أن القنبوس والمصنوع محليا، هو السائد ولاشك في بقية أجزاء الجزيرة ،اما في الأوساط الكبيرة الواسعة فقد عم استعمال العـود المصري والهندي كما تستعمل الآلات الموسيقية الغربية حيث في مدينة المكلا فرقة موسيقية عسكرية وفرقتان خاصتان ،وكما يقول صلاح البكري في كتابه( تاريخ حضرموت ) (4) أن الآلات (الموسيقية المستعملة في حضرموت هي ( المرواس ) طبل صغيرو( الهاجر ) طبل كبير، والعود،والمدروف والمزمار.
وعندما استفسرت عن( العنفيطة ) التي ذكرها باصبرين قيل لي بأنها (الزيتي)(*) وهي كلمة تستعمل في عدن للصفارة العسكرية ويمكن ان تكون هذه الآلة التي يستعملها العبيد في حضرموت من نوع آلة( المزمار ) التي يستعملها( الحجور ) وهي كلمة تعني ( الصبيان في حضرموت) في منطقة ( خنفر بأبين ) ، وقد أقتنيت من شبام مزمارا محلي الصنع ليكون من معروضات متحف جامعة كمبردج لتاريخ المعمار وعلم الفصائل البشرية وقد سمعت كلمة ( القصبة ) تستعمل في دوعن للمزمار، وقد وصف ( لاندبرج ) بالرسم آلة القنبوس والمرواس والهاجر والمدروف ( الناي(5).
ومنها أنواع وكثيرا مارأينا الأطفال في شبام وتريم يستعملون تجويف قصب الذره ويؤسفني أنني لاأستطيع أن أعطي وصفا فنيا تخصصيـا لهذه الآلات الموسيقيـة والتي يبدو أنها توجد كثيرة .
وفي قيـدون بدوعن صادفت أثنين من جماعة الجوالة اليمنيين الذين يجولون أكثر البلاد ، ويعرفـون بـ ( آل بن علوان ) بالرغم من أنهم لايرتبطون ( بالولي )(6) الشهير بن علوان بأية صلة ويقال أنهم يأتون أحيانا من لواء البيضاء وقد قابلت أحدهم في ( مكيراس ) وأذكر أنه قد قيل لي أنهم من مجاذيب أبن علوان وينظر إليهم الناس بشئ من الحذر والخوف الروحي المرتبط بالاعتقادات الدينية ، ويحمل كل منهم طبلا ( ودفا ) طارا تعلق به صناجات تحدث صليلا عند الغناء وتساعد على الإيقاع أثناء اللعب بها ، والبعض من هؤلاء المغنين ( الدوشان ) يحملون سهاما يركزونها على جفونهم وعيونهم كما قد رأيت في( بيحان ) ويمكن ان يكن هؤلاء المغنون الجوالون من الوسائل التي تنقل بها الأشعار وتنتشر الألحان من منطقة الى أخرى في جنوب الجزيرة العربية ، وهناك فصائل أخرى من المغنيين والشعراء الجوالين ومنهم (الشاحتون(7) أو( الشحت ) جمع شاحت ، الذين في الإمكان أن يلقي البحث عن أصولهم بعض الضؤعلى الدور الذي يؤديه الراوي في بلاد العرب القديمة ، وأميل إلى التذكير في أن بعض الآراء القديمة التي أبداها الشارحون والدارسون حول هذه الطبقة قد تقبلها المختصون في أوربا بقدر كبير من التساهل وعدم التمحيص ويشير محمد بن هاشم(
الىشحادين بغداديين ومغنيين في المكلا.
ويبدو أن البحث في الموسيقى الشعبية وأصول الموسيقى التي يغنى بها الشعر في جنوب الجزيرة سيفتح مجالا لدراسة خاصة ، وأشعر أن هناك نقصا مـا في كتابة القصائد بدون موسيقي المصاحبة لها عندما تغدو هذه القصائد من أغاني التراث(9).
المغنون وتابعوهم
كنا في ميناء بلحاف في نوفمبر1947م ، وقد دعى ( القائم ) عددا من البحارة الذين ترسوا سفنهم في مرسى المدينة ، وكان الحضور عددا من الرجال الحضارمة والعمانيين واليمنيين والصومال ، وخليط آخر من مختلف الأجناس ، وقد جلسوا على شكل مربع ملاصقين لجدران الغرفة ، ومع الشعور بالعطلة والتمباك ( الحمي ) اللاذع ، كان الجو متكهربا بالإثارة والمرح ، وكان المغني الأساسي تميميا من إحدى القرى المجـاورة لتريم ، وقد صـدح بالغنـاء المصري والعمـاني واليمني والحضرمي (10) ، وكان يغني بصوت قوي جميل ومنفعل ويمكن القول بأنه كان غناء حارا مشتعلا لولا حرارة ذلك المساء المفعم بالسرور ، ولولا أن الغرفة كانت أيضا حارة لكنا سهرنا حتى وقت متأخر(11) ، قد أستهل غناءه بغزف خفيف على القيتاره ( السمسمية) وبإيقاع خفيف على أثنين من ( الدنابق ) التي تسخن على موقد الفحم لكي يكون الجلد مشدودا ويصاحب الموسيقى تصفيق إيقاعي بتوقيت معين من قبل الحضور، وعندما بلغت النشوة بالحاضرين مبلغا كبيرا قام اثنان من ذوي الملامح الأفريقية ، أو صومالية أو من المحتمل أن تكون سواحلية ، وشرعا بعملية التحريك وهز الوركين ، وقد أحاط كل منهما بعمامة في وسطه وأمسك بطرفيها بيديه ، ويسمى الهز أو بالأحرى التحريك (اللوك الفعل : لاك ،يلوك ). أما تحريك الأكتاف فيسمى الرعش أو( النعش ) وكانت الضحكات تتعالى طوال السمر وصاح المغني الذي كان في غاية الاستمتاع والإنشاء بالغناء ( يامولى البحر) ، وقد كان صاحب صوت جميل رخيم وكان أحسن ما أستمعت اليه من الأغاني هي الأغاني الحضرمية التي أمتازت بقرار أو لازمة حزينة خلافا للأغاني المصرية البهيجة (12).
وقد كان هذا الغناء( الجماعي ) مختلفا جدا عن غناء مغن آخر استمعنا اليه في ( مسيلة آل بن يحي ) قرب تريم وذلك عندما أستدعي أحد المغنيين المزارعين ، وقد دعاه السيد علي بن عقيل إلى بيته احتفاء بنا ، وكان المغني ذو ملامح زنجية بعض الشيء إذ قارنا لون بشرته الداكن بلون بشرة الحاضرين وكان انفه عريضا أيضا إلا انه لايختلف كثيرا عن أي فلاح عادي .
وقد جلس على هيئة ( الحبوة ) وهي جلسة يربط الجالس فيها خصره وركبته بقطعة من القماش ورجلاه متقاطعتان بعض الشيء وهي المتعارف عليها والمميزة للمغني ، وكان يضع أصابع يديه اليمنى بإذنه اليمنى وإبهامه إلى داخل الأذن بعض الأحيان يرفع كلتا يديه إلى إذنيه وبدون هذه الحركة لا يتحفز المغني للغناء أي ( مايطلع الغــوا ) .
وفي البداية قد يكون المغني باردا ثم يبدأ بالهمهمة ( وينسنس أو يدنـدن ) وبعد هذه الهمهمة الخافتة ينطلق المغني بجدية كان شيئا حركه من الأعماق وقد كان هذا المغني غلاما قرويا خجولا ظل طوال الوقت خافضا بصره في خجل وارتباك يغني ( ينوح أوينغـق ) ، وقد غنى لنا نوعين من الغناء هما حسب الإصلاح الموسيقي:
1- علوى وهو غناء الجزء الذي يسمى ( علوا ) أي منطقة أعالي وادي حضرموت ويمتاز الحان هذا اللون من الغناء بالتطويل والتمديد .
2 - الجزعي من جزع ( بكسر الجيم وسكون الزاي ) أوجزع ( بفتح الجيم ) ويعني الأودية الفرعية او الجانبية في المنطقة الجنوبية ( الشق البحري ) وهي منطقة يقال إنها بين البدو والحضر ثقافيا ويمتاز الحان هذا اللون من الغناء بالسرعة والخفة والركض والعجلة(13). وقد غنى لنا ( سيد ) من تريم وهو غير متقيد بتلك الهيئة وقد يختلف الظرف هنا قليلا ويحتمل الا نجد هذا التقيد في أوساط الطبقة المتعلمة.
___________________________________________
الهوامش1) هناك موسيقى عسكرية تابعة للحكومة اليمنية قارن بما ذكره( نزيه المؤيد العظم ) في كتابه رحلة في بلاد العربية السعيدة الجزء الأول ص48 وبما ذكره ( محمد حسن ) في قلب اليمن ( بغداد1947م ) ص165 وفيه يقول أن الغناء ممنوع في صنعاء وكذا الاستماع إلى موسيقى الإذاعات الأجنبية ، وكذلك امتلاك الجرامافونات ، ويعاقب المغنون طبقا للشريعة ويوجد الغناء الديني إلا أن الغناء الغزلي محظورا نهائيا وأي حفلات غنائية من النوع الآخر تقام في أماكن سرية خوفا من المخبرين ، إذ يجتمع عشاق اللهو في مخابئ للغناء ومن المستغرب أن يمنع اليمنيون الموسيقى بهذه الطريقة بغض النظر عن موسيقى الأمام وخصوصا أن اليمن مشهورة بالمغنيين من عهود تمتد للعصر الجاهلي إذ يذكر بن القفطي في كتابه( تاريخ الحكماء ) وقد قام بنشرهJ.Lipper1903م ص162 انه رأى رجلا تعلم العود في فارس واليمن، أما الشوكاني في كتابه ( البدر الطالع ) في ص 143 الجزء الأول (القاهرة 1348 هجريه ) يعرض لنا عملا كتابيا من أعمال الأمام أحمد بن يحي المتوفى عام840 هجريه( 1436م ) يعارض فيه الذين يجيزون الملاهي والمزمار ويحتمل وجود مؤلفات مماثلة أخرى في اليمن.
(2) الجزء الثالث من Arabica ( ليدن ص 3)
(3) الربانية يحمل رقم 49 في ص18 انظر (موضوعات عن تاريخ الجزيرة العربية) الجزء الثاني الموضوع رقم26 بداية الموسيقى العسكرية منA rabica( ليدن ص13مخطوط عندي بعنوان المرتكب من المناهي والطبول في حضرموت في فترة سبقت قليلا عام 1345هجريه.
(4) تاريخ (حضرموت) الجزء الثاني ص33و34 منه.
(5) Arabica الجزء3 ص29و33و34.
(*) ألتا شبه بعيد قليلا بين الزيتي وهي الصفارة العسكرية المصنوعة في الأغلب من مادة معدنية وبين العنفيطة المصنوعة من القصب (المترجم).
(6) يفترض أن بن علوان هو أبو العباس احمد بن علوان المذكورفي (طبقات الخواص لأحمد الشرجبي القاهرة1903م ص19. وهو مشهور بالشعر الصوفي ضريحه في يغرسقرب تعز). (7) انظر هركرنجي ( مكه) وقد ترجمه J.H.Monahan (ليدن1931 ص4 (( الرحلة ) ص55.
(9) لم يصل إلى متناول يدي من محاولات حول تدوين موسيقى جنوب الجزيرة غير مايلي (( بعض الألحان العربية للإذاعة البريطانية كما أن لدى( لاندبرج ) بعض الألحان في كتابه ( حضرموت ) وقام أتش هلفرتس بتسجيل بعض الأغاني وإذا كانت لاتزال في فينـّا فأنها لم تنشر بعد وهناك بعض العمال حول الألحان اليمنية اليهودية قارن بما ذكره آ.زد.دلسون، في كتابه (الألحان العبرية الشرقية ) بنفس المصدر بعنوان (الألحان اليمنية اليهودية ) ( لندن1917م ) الجزء السابع ومصادر أخرى ولا نتوقع أن يكون هناك أي اختلاف كبير بين الموسيقى اليهودية والعربية في المدن ، هذا بالرغم من إنني استمعت إلى ألحان عذبة جدا من أحد المعيدين اليهود في حبّان ، وهي تختلف تماما عن الموسيقى العربية إذ أن الأناشيد الدينية تمثل نوعا آخر من الموسيقى الشعبية ، انظر أيضا بعض الملاحظات حول العروض و الموسيقي فون لاندبرج ( ليدن1884)الشعبية ) لكاتبه دبليو إدريس جونز( جلاسجو محاضر جمعية الدراسات الشرقية بجامعة جلاسجو طبع عام 1934و1935 ) الجزء السابع الصفحات من10 الى16 أنظر أيضا( العالم الإسلامي ) ، ( هارتفورد1937م ) مجلد27 ج2 وأيضا كتاب (Kingdom Of Melchior ) مملكة الملوك ( لندن 1949) وفيه بعض الألحان من محمية عدن التي سجلت.
(10) تعود بي الذاكرة لأغنية مصرية استمعت اليها من أسطوانات جرامافون لأحد البحارة المصريين:
غني لي شويه شويه ........ غني لي وخد عـينيـه
(11) غالبا ماتغنى الأغاني الدينية على هذه الألحان الشعبية مع قلة الاهتمام بالكلمات. (12) قيل لي أن الألحان الحضرمية تلحن بناء على مقام موسيقى يسمى ( سيكا ) وأدين بالفضل للدكتور (آ . بيكر ) الذي قدم الملاحظات والمراجع التالية ( ظهور الموسيقى في العالم القديم ) لكاتبهCurt Sachs نيويورك 1944م ص285 والمقام هو في الأصل المكان الذي يقف عليه المغنون للأداء أمام الخليفة وهو مرادف لكلمة راجا (Raja ) الهندية وهو ضرب من الألحان يعتمد على مقاس مضبوط مع شئ من الانطلاق والتحرر من قيوده وحركة البداية هامة جدا ويبدأ مقام (الراست) من القرار ويمتاز الراست بالرزانة بينما المهر بالخفة اما البيات فيكون بضرب الرابع والسيكا بضرب الثالث تحت القرار قارن بماذكره في ص305 ومقام السيكا ذو القرار الثلاثي الذي يستخدم فيه درجة(ب) بدون دليل مقام_مي) يعطي باستمرار خامسا مضبوطا بشد النوتة.((**)((**)) تعليق للمترجم( مادة موسيقية يجب التأكد من محتوياتها من موسيقار مختص ).
(13) الملاحظات الميدانية مايو1947م.